الزمان/ 15 ذي القعدة – 16 هـ
المكان/ منطقة جلولاء من بلاد فارس
الموضوع/ انتصار المسلمين على الفرس في موقعة جلولاء
الأحداث /
لما سار كسرى وهو ‘يزدجرد بن شهريار’ من المدائن هاربا إلى حلوان شرع في أثناء الطريق في جمع رجال وأعوان وجنود من البلدان التي هناك فاجتمع إليه خلق كثير وجم غفير من الفرس وأمر على الجميع قائده ‘مهران’ وسار كسرى إلى حلوان وأقام الجمع الذي جمعه بينه وبين المسلمين في جلولاء فاحتفروا خندقا عظيما حولها وأقاموا بها في العدد والعدد وآلات الحصار .
فكتب سعد إلى عمر يخبره بذلك فكتب إليه عمر أن يقيم هو بالمدائن ويبعث ابن أخيه هاشم بن عتبة أميرا على الجيش الذي يبعثه إلى كسرى ويكون على المقدمة القعقاع بن عمرو وعلى الميمنة سعد بن مالك وعلى الميسرة أخوه عمر بن مالك وعلى الساقة عمرو بن مرة الجهني ففعل سعد ذلك وبعث مع ابن أخيه جيشا كثيفا يقارب اثني عشر ألفا من سادات المسلمين ووجوه المهاجرين والأنصار ورءوس العرب وذلك في صفر من هذه السنة بعد فراغهم من أمر المدائن .
فساروا حتى انتهوا إلى المجوس وهم بجلولاء قد خندقوا عليهم فحاصرهم هاشم بن عتبة وكانوا يخرجون من بلدهم للقتال في كل وقت فيقاتلون قتالا لم يسمع بمثله وجعل كسرى يبعث إليهم الإمدادات وكذلك سعد يبعث المدد إلى ابن أخيه مرة بعد أخرى وحمى القتال واشتد النزال واضطرمت نار الحرب وقام في الناس هاشم فخطبهم غير مرة فحرضهم على القتال والتوكل على الله وقد تعاقدت الفرس وتعاهدت وحلفوا بالنار أن لا يفروا أبدا حتى يفنوا العرب .
فلما كان الموقف الأخير وهو يوم الفيصل والفرقان اصطفوا من أول النهار فاقتتلوا قتالا شديدا لم يعهد مثله حتى فني النشاب من الطرفين وتقصفت الرماح من هؤلاء ومن هؤلاء وصاروا إلى السيوف وحانت صلاة الظهر فصلى المسلمون إيماءا وذهبت فرقة المجوس وجاءت مكانها أخرى فقام القعقاع بن عمرو في المسلمين فقال أهالكم ما رأيتم أيها المسلمون قالوا نعم إنا كالون وهم مريحون فقال بل إنا حاملون عليهم ومجدون في طلبهم حتى يحكم الله بيننا فاحملوا عليهم حملة رجل واحد حتى نخالطهم فحمل وحمل الناس .
فأما القعقاع بن عمرو فإنه حمل في جماعة من الفرسان والأبطال والشجعان حتى انتهى بهم إلى باب الخندق وأقبل الليل بظلامه وجالت بقية الأبطال بمن معهم في الناس وجعلوا يأخذون في التحاجز من أجل إقبال الليل وفي الأبطال يومئذ طليحة الأسدي وعمرو بن معدي كرب الزبيدي وقيس بن مكشوح وحجر بن عدي ولم يعلموا بما صنعه القعقاع في ظلمة الليل ولم يشعروا بذلك لولا مناديه ينادي أيها المسلمون هذا أميركم على باب خندقهم
فلما سمع ذلك المجوس فروا وحمل المسلمون نحو القعقاع بن عمرو فإذا هو على باب الخندق قد ملكه عليهم وهربت الفرس كل مهرب وأخذهم المسلمون من كل وجه وقعدوا لهم كل مرصد فقتل منهم في ذلك الموقف مائة ألف حتى جللوا وجه الأرض بالقتلى فلذلك سميت جلولاء وغنموا من الأموال والسلاح والذهب والفضة قريبا مما غنموا من المدائن قبلها .
وبعث هاشم بن عتبة القعقاع بن عمرو في إثر من انهزم منهم وراء كسرى فساق خلفهم حتى أدرك قائدهم ‘مهران’ منهزما فقتله القعقاع بن عمرو وأفلتهم ‘الفيرزان’ فاستمر منهزما وأسر سبايا كثيرة بعث بها إلى هاشم بن عتبة وغنموا دواب كثيرة جدا ثم بعث هاشم بالغنائم والأموال إلى عمه سعد بن أبي وقاص فنفل سعد ذوي النجدة ثم أمر بقسم ذلك على الغانمين قال الشعبي كان المال المتحصل من وقعه جلولاء ثلاثين ألف ألف فكان خمسه ستة آلاف ألف وقال غيره كان الذي أصاب كل فارس يوم جلولاء نظير ما حصل له يوم المدائن يعني اثني عشر ألفا لكل فارس وقيل أصاب كل فارس تسعة آلاف وتسع دواب وكان الذي ولي قسم ذلك بين المسلمين وتحصيله سلمان الفارسي رضى الله عنه .
ثم بعث بالأخماس من المال والرقيق والدواب مع زياد بن أبي سفيان وقضاعي بن عمرو وأبي مقرن الأسود فلما قدموا على عمر سأل عمر زياد بن أبي سفيان عن كيفية الوقعة فذكرها له وكان زياد فصيحا فأعجب إيراده لها عمر بن الخطاب رضى الله عنه وأحب أن يسمع المسلمون منه ذلك فقال أتستطيع أن تخطب الناس بما أخبرتني به قال نعم يا أمير المؤمنين إنه ليس أحد على وجه الأرض أهيب عندي منك فكيف لا أقوى على هذا مع غيرك فقام في الناس فقص عليهم خبر الوقعة وكم قتلوا وكم غنموا بعبارة عظيمة بليغة فقال عمر إن هذا لهو الخطيب المصقع _ يعنى الفصيح _ فقال زياد إن جندنا أطلقوا بالفعال لساننا ثم حلف عمر بن الخطاب أن لا يجن هذا المال الذي جاءوا به سقف حتى يقسمه فبات عبد الله بن أرقم وعبد الرحمن بن عوف يحرسانه في المسجد .
فلما أصبح جاء عمر في الناس بعدما صلى الغداة وطلعت الشمس فأمر فكشف عنه جلابيبه فلما نظر إلى ياقوته وزبرجده وذهبه الأصفر وفضته البيضاء بكى عمر فقال له عبد الرحمن ما يبكيك يا أمير المؤمنين فوالله إن هذا لموطن شكر فقال عمر والله ما ذاك يبكيني وتالله ما أعطي الله هذا قوما إلا تحاسدوا وتباغضوا ولا تحاسدوا إلا لقي بأسهم بينهم _ فكأن عمر رضي الله عنه تأول قوله صلى الله عليه وسلم حين قدم عليه أبو عبيدة بن الجراح رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ من البحرين بجزيتها فقدم بمال كثير، فسمعت الأنصار بقدومه فوافوا صلاة الفجر مع رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم، فلما صلى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم انصرفوا فتعرضوا له فتبسم رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم حين رآهم ثم قال: < أظنكم سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشيء من البحرين؟> فقالوا: أجل يا رَسُول اللَّهِ. فقال: < أبشِرُوا وأمِّلُوا ما يَسُرُّكم، فوالله ما الفقر أخشى عليكم ولكني أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم> مُتَّفَقٌ عَلَيهِ _ ثم قسمه كما قسم أموال القادسية .
وروى سيف بن عمرو عن شيوخه أنهم قالوا وكان فتح جلولاء في ذي القعدة من سنة ستة عشر وكان بينه وبين فتح المدائن تسعة أشهر وقد قال هاشم بن عتبة في يوم جلولاء : يوم جلولاء، ويوم رستم، ويوم زحف الكوفة، وأيام خلت من بينهن شيبن أصدغي فهي هرم مثل ثغام البلد المحرم .
ولما هرب الفيرزان وصل إلى كسرى وأخبره بما كان من أمر جلولاء وكيف قتل منهم مائة ألف وكيف أدرك مهران فقتل فهرب عند ذلك كسرى خوفا ورعبا من حلوان إلى الري واستناب على حلوان أميرا يقال له ‘خسروشنوم‘ .
فتقدم إليه القعقاع بن عمرو وبزر إليه ‘خسروشنوم’ إلى مكان خارج حلوان فاقتتلوا قتالا شديدا ثم فتح الله ونصر المسلمين وانهزم ‘خسروشنوم’ وساقه القعقاع إلى حلوان فتسلمها ودخلها المسلمون فغنموا وسبوا ودعوا أهلها إلى الإسلام فأبوا إلا الجزية فلله الحمد والمنة أن صير كلمته هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى على يد من امتثل أمره تعالى من مقاتلة الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون .